التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
فرناندو وتوحيد ممالك إسبانيا النصرانية، مقال د. راغب السرجاني، يتناول توحيد فرناندو لممالك إسبانيا وحرب الاسترداد على ملوك الطوائف في بطليوس وطليطلة
الحرب الأهلية بين ممالك إسبانيا
ما إن مات سانشو الكبير اندلعت الحرب الأهلية في إسبانيا النصرانية بين الإخوة الأشقاء، وكانت حربًا دموية وشرسة، استعان أطرافها بالغيلة والخيانة والخديعة.
لم يقتنع راميرو ملك أراغون بنصيبه من مملكة أبيه، وطمع في نصيب أخيه غرسية؛ أي: مملكة نافار نفسها، ولم تكن قوَّاته كفيلة بتحقيق أحلامه، فعقد حلفًا مع جاره المسلم ابن هود صاحب سرقسطة على أن يُمِدَّه بجنود من عنده، ثم زحف راميرو في قوَّاته المتحدة، إلى نافار ومعه حلفاؤه من المسلمين، وضرب حصاره على قلعة تافالا، وعلى عَجَلٍ جمع غرسية جيوشه، وفي جُنح الظلام انقضَّ بقواته على جيش راميرو، وكانت مقتلة عظيمة ومفاجأة، وقُتل كذلك معظم جيش المسلمين المشارك في المعركة، وكان ذلك سنة 1042م.
وعلى الجانب الآخر كان غرسية ملك نافار يرى أنه أحقُّ بقشتالة من أخيه فرناندو؛ فهو أكبر إخوته سنًّا، وتملكت الغيرة قلبه من أخيه الأصغر فرناندو، فدبَّر له حيلة ومكيدة يكون فيها مقتل فرناندو؛ إذ دعا غرسية أخاه فرناندو لزيارته في نافار؛ فهو على فراش الموت، ويحبُّ أن يرى أخاه قبل انقطاع حياته، وفعلاً لبَّى فرناندو دعوة أخيه الأكبر، ولكنه فطن إلى حيلته بفعل عيونه، فعاد مسرعًا، وقلبه يمتلئ حقدًا على أخيه، ولم يكن غرسية على علم بأن فرناندو اكتشف حقيقة أمره ومكيدته، وبعث فرناندو برسالة لأخيه غرسية يدعوه لزيارته بقشتالة، فسار إليه وهو مطمئن النفس من أخيه، وما لبث حتى قبض عليه فرناندو واعتقله، ولكنه استطاع الفرار وهو يُضمر لأخيه الانتقام، فكان لا بد من الحرب!
جمع غرسية حشوده مستعينًا في ذلك بحليفه المقتدر بن هود صاحب سرقسطة، كما جمع فرناندو حشوده من قشتالة وليون، واشتبك الفريقان عند سهل أتابوركا شرقي برغش، وكانت معركة دامية، انقلبت فيها الموازين على غرسية وحلفائه من المسلمين، وقُتل غرسية بضربة قاضية، فانهار جيشه ولاذ بالفرار، وقصر فرناندو مطاردته على جيش المسلمين، فمُزِّقُوا شرَّ ممزَّق، وكانوا بين أسير وقتيل، ووقع اختيار فرناندو على سانشو بن غرسية ملكًا جديدًا على نافار؛ ليكون وريثًا لأبيه[1].
وهكذا توحَّدت ممالك إسبانيا النصرانية مرَّة أخرى؛ إذ أضحت قشتالة وليون ونافار وجليقية وأراجون (أراغون) تحت قبضة ملك واحد هو فرناندو بن سانشو الكبير.
فرناندو وحرب الاسترداد الأولى
حقًّا إن التاريخ يُعيد نفسه، وما أشبه أحداث الواقع بالتاريخ.. ففي الوقت الذي كانت إسبانيا النصرانية تنزع نحو الوَحْدَة والقوَّة على يد فرناندو، الذي استطاع بالفعل أن يُكَوِّن جبهة نصرانية صليبية مُوَحَّدة، كانت إسبانيا المسلمة أو الأندلس الإسلامية تصطلي بنيران الفُرقة والتنازُع والتشرذم بين أبناء الدين الواحد، فما أن أُلغيت الخلافة الأموية (عِقد الأمَّة ورمز وَحدتها) وذلك في قرطبة سنة (422هـ=1031م)، حتى أضحت الأندلس فرقًا ممزَّقة وقطعًا متناثرة، وطوائف متنازعة متقاتلة.
وكان هذا التنازع سبيلاً إلى أن يتقوَّى بعضهم على بعض بتكوين التحالفات والتكتلات والاستعانة بغيرهم؛ ليتقوى بهم على جاره المسلم، وربما كان جاره أباه أو أخاه، وكان لا بدَّ لهذا الحليف أن يكون في موضع قوَّة واتحاد؛ لذلك اتجهت أنظار ملوك الطوائف إلى النصارى الصليبيين، الذين يحملون رُوح الحقد والكراهية للمسلمين.
فكان هذا الاتحاد الذي أحدثه فرناندو بين ممالك إسبانيا الصليبية، وحالة التنازع والفرقة بين ملوك الطوائف سبيلاً إلى تغيير ميزان القوى السياسية والعسكرية في شبه الجزيرة الأيبيرية بشِقَّيْهَا الإسلامي والنصراني، وكانت هذه القوة النصرانية بداية لما يُسَمَّى بحرب الاسترداد الصليبية ضدَّ الممالك الأندلسية المسلمة.
تمركزت سياسة حرب الاسترداد التي تزعَّمها فرناندو الأول[2] ملك قشتالة على أكثر من جهة، وكان يهدف من هذا الأمر إلى إضعاف قوَّة ملوك الطوائف، وإخضاعهم لسلطانه وسيطرته؛ إمَّا من خلال السيطرة على أراضيهم، أو إضعافهم وإرهاق كاهلهم بدفع الجزية والإتاوات، ولم يُوَلِّ فرناندو نظره وقوَّته إلاَّ للممالك الأقوى بين ملوك الطوائف، وكانت هذه الممالك هي طليطلة وإشبيلية وسرقسطة وبطليوس وغيرها من الممالك الضعيفة.
غزو فرناندو لمملكة بني الأفطس في بطليوس
فما أن انتهى فرناندو من توحيد جبهته الصليبية بعد تغلُّبه على إخوته، حتى وجَّه أمره وقوته إلى بني الأفطس أصحاب بطليوس؛ لإخضاع وضمِّ ممتلكاتهم إلى دولته، ومعلوم أن بطليوس تُمَثِّل الحدود الشمالية والغربية لدولة الأندلس؛ أي: تشمل دولة البرتغال الحالية بكاملها؛ فهي تضمُّ لشبونة (lispon)، وشنترين (Santarém)، وقلمرية (Coimbra) وغيرها، وفي سنة (449هـ=1057م) تأهَّب فرناندو الأول وجمع جيوشه وغزا بلاد بطليوس، وعبر بقوَّاته نهري دويرة وتورمس، وهاجم الحدود الشمالية لمملكة بطليوس، واستطاع أن يُخضع مدينتي بازو ولاميجو الواقعتين في شمال البرتغال، وعاث فيهما فسادًا وتخريبًا، ثم قام بعملية تصفية وتطهير عرقي ضد مسلمي المدينتين الإسلاميتين؛ إذ طرد المسلمين منها واستوطنها بالنصارى[3].
وبعد أن تمَّت السيطرة لفرناندو طلب من المظفر بن الأفطس دفع الجزية والإتاوة، بيد أن المظفر رفض دفع الجزية له، وهذا ما دفع فرناندو أن يُغِيرَ مرَّة أخرى، فبعث بحملة من عشرة آلاف جندي عاثت تخريبًا وقتلاً، ولم تلقَ مقاومة تُذْكَر من جند ابن الأفطس، وظَلَّت قوَّات النصارى تعيث في أراضي المسلمين فسادًا حتى وصلت مدينة شَنْتَرِين، وكان ابن الأفطس على علمٍ بتحرُّكات النصارى، فسبق النصارى إلى شَنْتَرِين، وعَلِمَ أنه لا قِبَلَ له بجيش النصارى، فعرض عليهم الصلح والهدنة، وانتهت المفاوضات على أن يدفع ابن الأفطس الجزية السنوية ومقدارها خمسة آلاف دينار[4].
غزو فرناندو لمملكة بني ذي النون في طليطلة
يبدو أن فرناندو قنع بخضوع بطليوس وأصحابها من بني الأفطس، فوجَّه وجهته الثانية ناحية طليطلة، وقد بيَّنَّا -سابقًا- أن فرناندو كان يبعث سراياه لتعيث فسادًا في أراضي طليطلة، أثناء حلفه مع ابن هود في فترة الصراع المحتدم بين سليمان المستعين بن هود وبين المأمون بن ذي النون، كما أن المأمون كان يستعين بغرسية ملك نافار، وكانت جيوش النصارى تعيث في أراضي المسلمين بتحريض من الأميرين المشئومين.
وأدرك فرناندو بعد توحيد جبهته أن لا قِبَل لملوك الطوائف بردِّه؛ إذ هم منهمكون في حرب بعضهم البعض، ففي سنة (454هـ=1062م) هاجم فرناندو حدود مملكة طليطلة الشمالية الشرقية؛ فأغار على مدينة سالم ووادي الحجارة وقلعة النهر (قلعة هنارس)، وعاث فيها فسادًا وتخريبًا، ولم يكن أمام المأمون إلاَّ أن هرع مسرعًا إلى فرناندو، وجمع معه أطنانًا من الذهب والفضة، وقدم له الهدايا اعترافًا بطاعته، وتعهد بدفع الجزية له[5].
غزو فرناندو لمملكة بني عباد في إشبيلية
وبعد أن اطمأن فرناندو إلى ولاء المأمون بن ذي النون، خرج بقوَّات كثيفة سنة (455هـ=1063م) وأغار على مملكة إشبيلية، وأحرق قراها وخرَّب أراضيها، فلم يجد المعتضد بن عباد بُدًّا من أن يحتذي حذو المأمون صاحب طليطلة، وهرع المعتضد مسرعًا إلى فرناندو وقدَّم له الهدايا؛ معلنًا الولاء والطاعة، كما عرض عليه الصلح والمهادنة والسلم فقَبِلَ منه! وطلب منه أن ينقل رفات القديسة خوستا، التي استشهدت أيام الإمبراطور دقلديانوس ودُفِنَتْ بإشبيلية، فوافق المعتضد بن عباد، وحُمِلَتْ رفات القديسة في احتفال فخم، ونقلت إلى ليون[6].
سقوط قلمرية في يد فرناندو
وهكذا استطاع فرناندو أن يُخضع طليطلة وبطليوس وإشبيلية تحت قبضته، بإرهاقهم بالجزية والغارات، وكان في كلُّ ذلك يعدُّ عُدَّته وخطته الكبرى للسيطرة على قلمرية من أعمال بطليوس، التي فتحها المنصور بن أبي عامر في 375هـ، قصد فرناندو قلمرية بجيوشه وفرض عليها الحصار سنة (456هـ=1064م)، وكان قائدها في ذلك الوقت رجلاً يُسَمَّى راندة، وقد غادر المدينة بعد أن راسل فرناندو سرًّا، وخرج هو وأهله سالمين، ثم توجَّه إلى المظفر بن الأفطس الذي قتله جزاء خيانته وتعاونه مع الصليبيين، ويبدو أن المسلمين حاولوا المقاومة، ولكن نفدت أقواتهم، ولم تلبث المدينة حتى سقطت بعد ستة أشهر من الحصار، بعد حُكم إسلامي دام أكثر من بضع سبعين سنة[7].
فرناندو وغزو مملكة بني هود في سرقسطة
لم يَعُدْ أمام فرناندو إلا أنْ يُخْضِعَ مملكة بني هود، التي تُسَمَّى بالثغر الأعلى سرقسطة؛ فهي المملكة الوحيدة التي يماطل أصحابها فرناندو في دفع الجزية والإتاوات المفروضة عليهم، كما أنه أراد أن يُخْضِعَ بلنسية لسلطانه، فتوجَّه بقوَّاته سنة (457هـ=1065م) صوب بلنسية مخترقًا في ذلك حدود سرقسطة الجنوبية، وأعمل فيها القتل والتخريب، ونهب الزروع والقرى، كما أنه اجتاح سائر البقاع والحصون؛ وبذلك أرغم المقتدر بن هود على دفع الجزية.
فرناندو وإخضاع بلنسية
ثم اتجه من فوره ناحية بلنسية وفرض عليها الحصار، ولَمَّا طال الحصار ورأى فرناندو أن حصون المدينة منيعة، ووسائل الدفاع لديها قوية، عزم على الحيلة والمكيدة؛ فتظاهر بالانسحاب والمغادرة، فخرج أهل المدينة فرحين بالنصر متتبِّعين فلول المنهزمين، متزينين بزينة النصر والأُبَّهة، وهنا وفي غفلة من أهل بلنسية وأميرها عبد الملك بن عبد العزيز المنصور، ارتدت القوات الصليبية، وأعملت في أهل بلنسية القتل والأَسْرَ، واستسلمت المدينة لفرناندو، ولكنه أحسَّ بالمرض فآثر العودة إلى ليون، ولم تمضِ أيام حتى تُوُفِّيَ سنة (457هـ= ديسمبر 1065م) [8].
وهكذا استطاع فرناندو أن يبسط قوَّته على إسبانيا الصليبية وإسبانيا الإسلامية بسلطانه المادي بقوته وجيوشه، والمعنوي بالجزية والإتاوات، التي يُرهق بها ملوك الطوائف.
التعليقات
إرسال تعليقك